ثمة عدة مداخل للوقوف والتذكّر والاعتبار ، وثمة عدة نوافذ أيضاً ، للعرفان والرمزية والوفاء ، وبين هذه جميعاً المتسع والباحة لندب وقنوط ، أو إعتزاز بأمل وعمل ، والنهوض من جديد ، لإكمال الدرب وتحقيق الوصول ، هذه هي خلاصة الأيام العظيمة ، وهذه هي خلاصة دروس الشعوب العظيمة.
قطعاً لا تسرُّ الصورة المتحفزة ، ولا تشيع في النفس إلا القلق ، ومع ذلك فهي ليست بالعابرة ، إنما حالها الاستقرار في المكان ، والاستنزاف مع دورة الزمان ، وإن كانت معظم الصور الماضية ، على نسبة من هذا الحال ، في السّواد والأسى ، فإن الفارق الجديد هذه المرة ، أن معظم سوادها الجديد ، جاء حصاداً حراماً بأيدٍ فلسطينية اللسان والأديم.
في الوقوف مع أيام «أبو عمار» ، يحتار المرء من أيِّ المحطات يبدأ ، وللرجل في كل يوم أكثر من واحدة منها ، لكنَّ الذي صنع مفارقة القرار في الوقوف ، في هذه المرة هو آخر محطات الدروس التي وضع أسسها ، وأصرَّ عليها هذا الراحل العظيم ، نعم هي محطة «عكس المؤشر» مرة واحدة ، ودفعة واحدة ، وكما هي العادة دوماً ، مع محطاته الكبيرة ، يفيق الناس بعد الأداء ، ليعتذروا له من نزق الإدعاء ، واستخفافهم بالتكاليف والجهد والأعباء.
أيُّ مؤشرٍ عكسه الزعيم الراحل ؟
إنه المؤشر الاستراتيجي «الصهيوني» ، الذي بدأ حتى قبل العام 1917، وهو مؤشر توفير المناخات والأجندات، لتحقيق «الضياع الفلسطيني» ، واستبدال الصورة ، وإسدال الستارة ، وتوفير الفرصة الضرورية ، لترجمة الهدف الحقيقي الأساس ، من معادلة «الشطب والاستبدال» ، وبدء وظيفة «الوكالة» المنتظرة ، من هذا «الكيان» المزروع ، والتي كانت صلب الغرض ، دافعاً وراء هذه «الجريمة التاريخية».
إن نضال وكفاح الشعب العربي الفلسطيني ، ومنذ بداية انفجار الثورة الفلسطينية الثانية تحديداً ، والذي قاده هذا الزعيم العظيم ، أنجز لحظة تاريخية ، مكّنته من إدارة الدولاب ، ومن إطلاق مرحلة «عكس المؤشر» ، وإن كانت الترجمة «الخفية - الظاهرة» ، من محطة «أوسلو» هي بداية مشوار ، هذه الرحلة النوعية ، فإن ما تحملته هذه المرحلة ، وعلى أكتاف الشهيد الراحل ، كانت في واقع الأمر ، جزءً كبيراً ، مما ارتضاه منفرداً ، وسعى الآخرون في جمع أول الثمار فيه ، بعد أن بكوا طويلاً ، عجاف لم يصدق عقمها ، وعلى مقابر لم تقم إلا بعدها ، تاجر التجّار في هذين ، وانسلّوا من دفع طاحونتيهما.
من باب جمع المطرود والمخرج ، من «القلاع والحصون» ، أعاد الشهيد «الكوفية» إلى فلسطين ، ومن عنوان «الضياع» وسفينة «الغياب» ، رسم الزعيم صورة «العودة» ، وأنجز إعادة ترميم «الرقم الفلسطيني الصعب» ، ومن معادلة «الرثاء وبكاء الخرائب» ، إلى معادلة «المديح وبناء الكتائب» ، ومن افتتاحية الخيار بين «البندقية والغصن» ، إلى افتتاحية الكبار بين «الغصن والبندقية» ، علم لم يتسن للأسماء والعقول بعدُ الكشف فيه ، وصنعة لم تلق بعد خطامها «لمعلِّم» غيره ، وأهم الملامح إنجازاً كان في درس «الصيد» ، درسٌ فهمه بعض التلامذة المتعبون البلهاء بالمقلوب ، دخلوا المختبر ، فاصطادوا ما ليس بصيد.
ما الذي اصطادوهُ إذن ؟
قال لهم إن «العدو» واحد ، فظنوا أن الواحد بحسب الماء....!
قال لهم إن «الشعب» واحد ، فأضمروا «واحدهم» من رأى رأيهم...!
قال لهم إن «البندقية» فن ونظم ، فاعتقدوا التفنن بالطلاء ، والنظم عند الحاجة «لغناء» أو«بكاء»..!
قال لهم إن «الظهر» لا يكون بدون العمود ، فنقلوا«العمود» إلى البطن، لينهارا معاً...!
قال لهم إن «المرحلة» تعني القدرة على استخدام «المنقلة» ، فاعتمدوا رواية «المقصلة»...!
قال لهم إن «الخارطة» لا تتكلم باللسان ، وتنطق عبر الأيدي والأرجل ، فاختاروا القفز «بالأسنان»..!
قال لهم إن «الوطن» يقول ويترجم الآخرون ، فاعتمدوا التراجم على حساب «النص»...!
قال لهم إن «الساحة» حيث الجميع، فانطلقوا من موقف الأقدام وصادروا «الساحة»...!
فأوصلونا على حيث الآن....
أوصلونا هنا
أوصلنا أولهم وآخرهم
أوصلنا أكبرهم وأصغرهم
أوصلنا أحذقهم وأحمقهم
أوصلنا أبيضهم وأسودهم
أوصلنا أمرضهم وأصحهم
أوصلونا إلى حيث لا نصف باقٍ ، ولا نصف هالك
سبة بين الشعوب والممالك
ووصمة بين تواريخ المعارك
هكذا صرنا غزة أخيراً
والقدسُ كسيراً
ونلهثُ خلفَ أيِّ منادٍ
بضاعةً لا رغبة لأحد منها باقتراب
وسوءةً نخشى أن لا تكون آخر العذابْ
هذا ما جنى هؤلاء
هذا ما اصطنع هؤلاء......
من هم هؤلاء ؟
أكثر هؤلاء في «القاعدين» دهراً حتى يأذن الله ، وأقلهم في «الطارئين» على الدين والدنيا....!
أكثر هؤلاء في «المشتغلين» بكل الجغرافيات ، إلا جغرافية فلسطين ردحاً ، وأقلهم في «الراسبين» بكل دروس الجغرافيا والتاريخ والحساب.....!
أكثر هؤلاء في «المنتظرين» نشرة هطول الأمطار ، ليقوموا إلى صلاة الاستسقاء ، وأقلهم فيمن غرف «غرفة» بيده....!
أكثر هؤلاء في الداعين إلى «حصاد» يوم الزرع ، وفي الداعين إلى ملحق زراعة يوم «الحصاد»...!
أكثر هؤلاء في «شطّار الكتاتيب» ، «محرّمين» على قول «أحدهم الغائب» ، و«محللين» على قول شبهة وصول واحدهم «الحاضر»...!
أكثر هؤلاء فيمن «الحلال» ما بين يديه ، و «الحرام» عند عينيه.....!
أكثر هؤلاء في «مضاريب الألسن» و «خوافت الصيحات» ، وأقلهم في «صاحب التقية» بين البينين ، وعندما يشتدُّ الضباب في الحالين...!
أكثر هؤلاء فيمن يرى وجاهة «لسواد» في العباءات ، ولا يرى غضاضة في لعنه «بالكوفيات»..!
أكثر هؤلاء فيمن لا يرى إلا ما يريد ، ولا يعترف إلا بما هو يجيد ، ولا يريد أن يقتنع إلا بما هو مخرج «التقليد» ، ومدخل رغبة «المريد» ، على إحصاء «الشوارد» قائمون ، وإنكار «الحواضر» مطبوعون..!
لله أنت وما أنت عليه يا أبا عمار
رأيت من باب «غزة» طريق القدس ، فجاء من اقترح الطريق إلى «تورا بورا» و«طهران»....
وعاملت بالحسنى في «غابة البنادق» ، فجاء من أغلظ واستشفى من البنادق في «غابة المخالب»...
وتركت وصية «الديموقراطية» ، فجاء من اتخذها «عليّة»....
وكنت أب «المقاومة» ، فجاء من أخذها سبيّةً في دار «المساومة»...
وزدت في مقدار «السكَّر والحلاوة» ، فتعاون العصاة والعاقون والبلهاء على جعله «الخلَّ والمنكر»..
هكذا هي الدنيا ، وهكذا هي المواريث ، قانونها العام بين «الصدفة» و «الصدفة» ، لا التربية وطول النفس بمستنقذ منها ، ولا الوصايا والعهود والمواثيق برادعة فيها ، اللهم إلا قليل ما هم ، فأين هؤلاء؟ أين هم يا أبا «عمار»؟
عليك من الله رضوان ومحبة
ومني إليك جميل السلام ، سلام عليك في العبقريات ، سلام عليك يا أبا عمار.....
* نائب لرئيس تحرير صحيفة الحقائق اللندنية
الأحد ديسمبر 02, 2007 3:09 pm
