الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ...،
فقد أطلق الإمام الشيخ أحمد ياسين تصريحاً سياسياً بشأن الهدنة مع العدو الإسرائيلي رداً على سؤال أحد الصحافيين من وكالة رويترز البريطانية سنة 1997م، وذلك عندما خرج الإمام الشيخ أحمد ياسين من السجن الإسرائيلي، قال فيه :" إن حركة المقاومة الإسلامية حماس تقبل بقيام دولة فلسطين على كامل أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وفق حدود عام 1967م – أي حدود ما قبل الخامس من حزيران سنة 1967م – مع حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، مقابل هدنة مع الكيان الصهيوني ."
ولما كان لهذا التصريح من صدى على الصعيد الفلسطيني والعربي والدولي، أحببت أن أكتب في الهدنة مع يهود في نظر الإمام الشيخ أحمد ياسين، وعرفت الهدنة لغة واصطلاحاً، ومشروعيتها في الإسلام، وما مدى الاستفادة من الهدنة في صراعنا مع يهود، كيف إذا عرفنا أن أول عمل سياسي قام به النبي e بعد الهجرة هو كتاب العهد بين المهاجرين والأنصار، والعهد بين المسلمين وبين يهود فأقرهم على دينهم وأموالهم، بشروط بينتها، وبيَّن الإسلام أن وفاء المسلمين بعهودهم ومواثيقهم هو من التقوى التي حث الله المؤمنين عليها ويحبها لهم، وأن هذا الوفاء مرهون باستقامة المعاهَدين على عهودهم إلى المدة المضروبة، وأن هذه الهدنة إنما هي عهد مؤقت لا يجوز نقضه إلا بانتهاء وقته على أن يبقى المعاهد محافظاً عليه بحذافيره، فإن نقص شيئاً من شروط العهد، وأخل بغرض من أغراضه عُدَّ ناقضاً له كله، لقول الله سبحانه وتعالى: }فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ{(التوبة:7) وقال تعالى: }ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ{ (التوبة:4).
وبينت إن كان العدو الصهيوني حافظ أم نقص شيئا – بل أشياء – مما عاهد عليه من قبلنا، بل لم يبق بنداً من البنود التي عاهد على احترامها إلا ونقصه ونقضه. وبينت ما هي الشروط التي شرطها الإمام أحمد ياسين لإمكانية قيام معاهدة مع هذا العدو الذي قاتلنا في الدين، وأخرجنا من ديارنا، وظاهر على إخراجنا، وكيف استفاد الإمام من معاهدات النبي e وقادة المسلمين في العهود السابقة، وذلك من خلال الوقوف على تصريحات الإمام الشيخ، ومقابلاته، ومشاوراته لنا في لقاءاتنا معه. وأرجعت كل معلومة أو تصريح أو مقابلة أو خطبة إلى مصادرها التي وقفت عليها.
المقدمة:
يقول الإمام الشيخ أحمد ياسين رحمه الله: " وحياة الإنسان كلها تجارب، وحياة الإنسان محدودة بالسنين، فعمر الفرد الفاني محدود، وأيامه على الأرض معدودة، فإن أهمل تجارب الذين سبقوه وذهب ليجرب كل شيء بنفسه، تنتهي أيامه ولم يحقق تقدماً أو تطوراً أو نجاحاً، وإن استفاد من تجارب الآخرين ممن يعايشهم، وممن عاشوا قبله، وفَّر على نفسه الكثير الكثير من الجهد والمعاناة، والتخبط الذي قد يقوده إلى الانحراف والانزلاق، ومن هنا كان قدر الله أن يرسل للناس رسلاً، يعيدونهم إلى منهج الله ليصوغوا حياتهم على أساسه، إلى أن جاءهم رسول الله e بالرسالة الخاتمة .
والأمم كالأفراد في هذا الأمر على حد سواء، ويوم تستفيد من تجارب الماضي تنمو وتتقدم وتحقق الخير والازدهار، ويوم أن تعرض عن تجارب الماضي، وتبدأ بتجريب ما جرب قبلها تعطل تقدمها، وتستنفد وقتها، وترهق نفسها، ويلفها الضياع، وعلى هذا فما أروع قول الشاعر:
اقرأ التاريخ إذ فيه العبر ضاع قوم ليس يدرون الخبر
فالتاريخ فيه العبر، وفيه التجارب، وفيه أخبار ما كان في ماضي الزمان، وعجلة الحياة تدور ما دامت الأرض والسماوات، والأحداث تتلاحق، تتطابق أحياناً، وتفترق أحياناً، وتقاس المستجدات على ما كان في الأيام الخاليات. ومن هنا لا بد من أن ندرك أهمية دراسة التاريخ الماضي من مصادره الموثوقة، وأن ندون التاريخ الحاضر بأمانة وتجرد وموضوعية، لكي تستفيد منه الأجيال القادمة، كما استفدنا من تاريخ الأجيال السابقة.
وجعلت هذا البحث في مقدمة وفصلين. وعرفت في التمهيد الهدنة لغة واصطلاحاً، وكذلك أهل الذمة ( أهل الكتاب )، وأصناف أخرى لغير المسلمين.
والفصل الأول: أنواع الهدنة والصلح المؤقت. وجعلته في ثلاثة مباحث في أنواع الهدنة، وأقوال العلماء فيها، وعرفت أهل الكتاب، وأهل الذمة، وبينت أصناف غير المسلمين.
والفصل الثاني: الهدنة مع يهود في نظر الإمام الشهيد الشيخ أحمد ياسين، وجعلته في ثمان مباحث، عرضت فيها ما نادى به الإمام الشيخ الشهيد أحمد ياسين رحمه الله من هدنة مؤقتة بيننا وبين العدو الإسرائيلي، يجنب فيها المدنيون من كلا الطرفين ويلات الحرب، وأثبت أن الإمام الشهيد قد أفاد من السنة النبوية الشريفة، وانطلق من فقه الإسلام العظيم، واستطاع أن يرمي الكرة في ملعب العدو، حتى أصبح في موقف الدفاع، وأصبحنا في موقع الهجوم .
أهمية البحث:
كثر الحديث في الآونة الأخيرة في أوساط السياسيين الفلسطينيين وغيرهم من العرب، والدول الأوروبية، والولايات المتحدة عن الهدنة ( وهو الاصطلاح الشرعي ) لما يسمى اليوم بوقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي، الذي طرد أهلنا، واحتل أرضنا، وقتل رجالنا ونساءنا، ولم يرحم صغيرنا ولا كبيرنا، وعاث في الأرض فساداً، فأهلك الحرث والنسل، محتجين بإجراء الصلح بين النبي e والمسلمين من جهة، وبين كفار قريش من جهة أخرى، كما يحتجون بصلح الرملة بين القائد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، وبين الصليبيين من جهة أخرى. ولقد غاب عن هؤلاء وأولئك أن الهدنة تكون بين الأعداء، وأن لا هدنة دائمة بين المسلمين وبين أعدائهم .
ولا مانع من وجود هدنة مؤقتة بين المسلمين وأعدائهم، إذا كان ذلك في مصلحة المسلمين، أما هدنة مؤقتة وليس للمسلمين فيها مصلحة، أو المصلحة كلها للأعداء، تحت ذرائع الأمن، فالأمن يجب أن يكون للطرفين المتهادنين، ولا يقبل بحال من الأحوال أن يكون الأمن لطرف على حساب طرف آخر. كما لا يقبل أن تكون هدنة مجانية أي دون مقابل، وإلا كان ذلك تنازلاً دون أي جدوى تعود على البلاد والعباد .
وحتى لا يتهم الإسلاميون بالجمود، فقد أبدى الإمام الشهيد الشيخ أحمد ياسين تفاعلاً إيجابياً مع المساعي الداعية لإيجاد هدنة مؤقتة بين شعبنا الفلسطيني وبين العدو الإسرائيلي من جهة أخرى. ولكن لما لم يكن التزام من العدو بالهدنة التي كان يسعى إليها مستعيناً بالضغط الأمريكي والأوروبي، الدول المانحة الأخرى على السلطة الفلسطينية والدول العربية المجاورة وغير المجاورة، كان لا بد من أن يقاسي العدو نتيجة إخلاله بما تم التفاهم معه عن طريق السلطة الفلسطينية في أثناء حكومة أبي مازن محمود عباس الماضية